الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الفخر: .المسألة الأولى: [في بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم أنفتهم شديدة وحميتهم عظيمة]: وقيل هم الأوس والخزرج، فإن الخصومة كانت بينهم شديدة والمحاربة دائمة، ثم زالت الضغائن، وحصلت الألفة والمحبة، فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية والمخالصة التامة مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. .المسألة الثانية: [في أن أحوال القلوب من العقائد والإرادات والكرامات كلها من خلق الله تعالى]: فلو كان الإيمان فعلًا للعبد لا فعلًا لله تعالى، لكانت المحبة المرتبة عليه فعلًا للعبد لا فعلًا لله تعالى، وذلك على خلاف صريح الآية. قال القاضي: لولا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة، لما حصلت هذه الأحوال، فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى على هذا التأويل، ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه، لأجل أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته، فكذا ههنا. والجواب: كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر وحمل للكلام على المجاز، وأيضًا كل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكفار، مثل حصولها في حق المؤمنين، فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة، وأيضًا فالبرهان العقلي مقو لظاهر هذه الآية، وذلك لأن القلب يصح أن يصير موصوفًا بالرغبة بدلًا عن النفرة وبالعكس، فرجحان أحد الطرفين على الآخر لابد له من مرجح، فإن كان ذلك المرجح هو العبد عاد التقسيم، وإن كان هو الله تعالى، فهو المقصود، فعلم أن صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي في هذا الباب. .المسألة الثالثة: [في حال القوم قبل شروعهم في الإسلام]: واعلم أن التحقيق في هذا الباب أن المحبة لا تحصل إلا عند تصور حصول خير وكمال، فالمحبة حالة معللة بهذا التصور المخصوص، فمتى كان هذا التصور حاصلًا كانت المحبة حاصلة، ومتى حصل تصوير الشر والبغضاء: كانت النفرة حاصلة، ثم إن الخيرات والكمالات على قسمين: أحدهما: الخيرات والكمالات الباقية الدائمة، المبرأة عن جهات التغيير والتبديل، وذلك هو الكمالات الروحانية والسعادات الإلهية. والثاني: وهو الكمالات المتبدلة المتغيرة، وهي الكمالات الجسمانية والسعادات البدنية، فإنها سريعة التغيير والتبدل، كالزئبق ينتقل من حال إلى حال، فالإنسان يتصور أن له في صحبة زيد مالًا عظيمًا فيحبه، ثم يخطر بباله أن ذلك المال لا يحصل فيبغضه، ولذلك قيل إن العاشق والمعشوق ربما حصلت الرغبة والنفرة بينهما في اليوم الواحد مرارًا لأن المعشوق إنما يريد العاشق لماله، والعاشق إنما يريد المعشوق لأجل اللذة الجسمانية، وهذان الأمران مستعدان للتغير والانتقال، فلا جرم كانت المحبة الحاصلة بينهما والعداوة الحاصلة بينهما غير باقيتين بل كانتا سريعتي لزوال والانتقال. إذا عرفت هذا فنقول: الموجب للمحبة والمودة، إن كان طلب الخيرات الدنيوية والسعادات الجسمانية كانت تلك المحبة سريعة الزوال والانتقال، لأجل أن المحبة تابعة لتصور الكمال، وتصور الكمال تابع لحصول ذلك الكمال، فإذا كان ذلك الكمال سريع الزوال والانتقال، كانت معلولاته سريعة التبدل والزوال، وأما إن كان الموجب للمحبة تصور الكمالات الباقية المقدسة عن التغير والزوال، كانت تلك المحبة أيضًا باقية آمنة من التغير، لأن حال المعلول في البقاء والتبدل تبع لحالة العلة، وهذا هو المراد من قوله تعالى: {الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67]. إذا عرفت هذا فنقول: العرب كانوا قبل مقدم الرسول طالبين للمال والجاه والمفاخرة، وكانت محبتهم معللة بهذه العلة، فلا جرم كانت تلك المحبة سريعة الزوال، وكانوا بأدنى سبب يقعون في الحروب والفتن، فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى عبادة الله تعالى والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، زالت الخصومة والخشونة عنهم. وعادوا إخوانًا متوافقين، ثم بعد وفاته عليه السلام لما انفتحت عليهم أبواب الدنيا وتوجهوا إلى طلبها عادوا إلى محاربة بعضهم بعضًا، ومقاتلة بعضهم مع بعض، فهذا هو السبب الحقيقي في هذا الباب ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله: {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي قادر قاهر، يمكنه التصرف في القلوب. ويقلبها من العداوة إلى الصداقة، ومن النفرة إلى الرغبة، حكيم بفعل ما يفعله على وجه الإحكام والإتقان. أو مطابقًا للمصلحة والصواب على اختلاف القولين في الجبر والقدر. اهـ. .قال السمرقندي: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرض جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، يعني ما قدرت أن تؤلف بينهم، {ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} بالإسلام. {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} حكم بالألفة بين الأنصار بعد العداوة، وحكم بالنصر على أعدائه. وروى أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: نزلت هذه الآية في المتحابين في الله: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرض جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} وقال عبد الله: المؤمن متألف يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف. اهـ. .قال ابن عطية: قال القاضي أبو محمد: وهذا كله تمثل حسن بالآية لا أن الآية نزلت في ذلك بل تظاهرت أقوال المفسرين أنها في الأوس والخزرج كما ذكرنا، ولو ذهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار وجعل التأليف ما كان من جميعهم من التحاب حتى تكون ألفة الأوس والخزرج جزءًا من ذلك لساغ ذلك، وكل تألف في الله فتابع لذلك التألف الكائن في صدر الإسلام، وقد روى سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «المؤمن مألفة، لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف». قال القاضي أبو محمد: والتشابه هو سبب الألفة فمن كان من أهل الخير ألف أشباهه وألفوه. اهـ. .قال ابن الجوزي: يعني: الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانت بينهم عداوة في الجاهلية، فألَّف الله بينهم بالإسلام. وهذا من أعجب الآيات، لأنهم كانوا ذوي أنفة شديدة؛ فلو أن رجلًا لطم رجلًا، لقاتلت عنه قبيلته حتى تدرك ثأره، فآل بهم الإِسلام إلى أن يقتل الرجل ابنه وأباه. اهـ. .قال القرطبي: وكان تألّف القلوب مع العَصبية الشديدة في العرب من آيات النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يُلطَم اللطمة فيقاتل عنها حتى يستقيدها. وكانوا أشدّ خلق الله حَمِيّة، فألّف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدِّين. وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار. والمعنى متقارب. اهـ. .قال الخازن: وذلك أن العرب كانت فيهم الحمية الشديد والأنفة العظيمة والأنفس القوية والعصبية والانطواء على الضغينة من أدنى شيء حتى لو أن رجلًا من قبيلة لطم لطمة واحدة قاتل عنه أهل قبيلته حتى يدركوا ثأرهم لا يكاد يأتلف منهم قلبان فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وآمنوا به واتبعوه انقلبت تلك الحالة فائتلفت قلوبهم واستجمعت كلمتهم وزالت حمية الجاهلية من قلوبهم وأبدلت تلك الضغائن والتحاسد بالمودة والمحبة لله وفي الله واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعوانًا يقاتلون عنه ويحمونه وهم الأوس والخزرج وكانت بينهم في الجاهلية حروب عظيمة ومعاداة شديدة ثم زالت تلك الحروب وحصلت المحبة والألفة وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله وصار ذلك معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرة باهرة دالة على صدقه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي» وفي الآية لدليل على أن القلوب بيد الله يصرفها كيف شاء وأرادوا ذلك لأن تلك الألفة والمحبة إنما حصلت بسبب الإيمان واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إنه سبحانه وتعالى ختم هذه الآية بقوله: {إنه عزيز حكيم} يعني أنه تعالى قادر قاهر يمكنه التصرف في القلوب فيقلبها من العداوة إلى المحبة ومن النفرة إلى الألفة وكل ذلك على وجه الحكمة والصواب. اهـ. .قال أبو السعود: .قال الألوسي:
|